تأتي المناورات الجوية الإيرانية، المتزامنة مع المفاوضات حول الملف النووي الإيراني مع الدول الغربية، رداً طبيعياً على طريقة التفاوض الأوروبي والأميركي، حيث أن الفريق الغربي يفاوض ويهدد بالعقوبات الاقتصادية، ويترك للعدو الإسرائيلي التهديد العسكري، أي إن أميركا تريد الموافقة الإيرانية على شروطها تحت التهديد والضغط، ما استدعى رداً إيرانياً يسقط مفاعيل التهديدات العسكرية والاقتصادية، لإعادة توازن القوى في المفاوضات الثنائية. تجاوزت إيران بمناوراتها الضخمة والمتطورة رسالة الدفاع الموضعي عن أراضيها ومنشآتها النووية، لتهدد بالرد على محور أوسع يشمل الأراضي المحتلة في فلسطين، وأماكن انتشار الجيوش الأميركية، بالإضافة إلى الرد على كل دولة تسهل العمليات العسكرية ضد إيران.
وعندما حاولت روسيا الضغط غير المباشر على إيران، بتأخير تسليم منظومة الصواريخ الدفاعية أس-300، سارعت إيران إلى حشد كل ترسانتها الجوية، لإعلان جهوزيتها العسكرية الميدانية لصد أي عدوان على منشآتها النووية، وترسيخ معادلة (بوشهر - ديمونة)، أي إن كل غارة على أي مفاعل نووي إيراني، سيقابلها قصف مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي، بالإضافة إلى الرد الواسع بعمليات أمنية ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية في العالم، وبشكل مكثف ومركز ضد الأهداف العسكرية والاقتصادية بعيداً عن أذى المدنيين، وهذا ما تستطيع إيران إنجازه، مع حلفائها في العالم من حركات مقاومة ودول حليفة، وستكون الجيوش الأميركية في العراق وأفغانستان أول ضحايا هذه الحرب الشاملة، وبتفوق إيراني مع المقاومة في أفغانستان والعراق، خصوصاً بعدما تكرر الفشل الأميركي في زعزعة الاستقرار الداخلي في إيران، عبر المعارضة الخضراء بما سمي الإصلاحيين الإيرانيين، وبعد حصار الفتنة المذهبية في بلوشستان، فإن الجبهة الداخلية الإيرانية المستقرة والمحصنة، تشكل حافزاً للإدارة السياسية، للتشدد في المفاوضات النووية بما يحمي مصلحة الشعب الإيراني، ومن ورائه مصلحة الدول الحليفة التي تشكل محور الممانعة والمقاومة في المنطقة والعالم.
وتأتي المناورات الإيرانية كرد على المناورات الإسرائيلية الأميركية التي دامت خمسة عشر يوماً في فلسطين المحتلة، تحضيراً لحماية القواعد الصهيونية من الرد الإيراني في حال قصف المفاعلات النووية الإيرانية، والمستغرب أن هذه المناورات لم تحرك جفناً عربياً، بل استقبل البعض الرئيس الإسرائيلي، ليبلغهم أن القدس ليست مستوطنة إسرائيلية، بل هي إسرائيلية بامتياز، وبالتالي لن تشملها المفاوضات، وإلزام العرب بقبول القدس عاصمة الدولة اليهودية.
لكن السؤال المطروح بعيداً عن الانفعالات والمبالغات: هل تستطيع إيران مواجهة المشروع الأميركي - الإسرائيلي؟
ويأتي الجواب أيضاً بعيداً عن الانفعالات والمبالغات، وبناء على الوقائع والمعطيات ليثبت حتمية الهزيمة الأميركية - الإسرائيلية، خصوصاً أن الخط البياني للقوة الأميركية - الإسرائيلية هو خط تنازلي، بعدما شهد تصاعداً كبيراً في العقود الأخيرة، فهو يشهد تصدعاً على مستوى البنية السياسية والعسكرية والاقتصادية، وصل إلى مستوى ضرورة التحالف الثنائي المباشر والميداني غير المستقر لحماية نفسه، والوقائع الميدانية تؤكد ذلك عبر الوقائع الآتية:
•1- المأزق الأميركي العسكري والسياسي في العراق، والذي لا ينذر بحلول قريبة لصالح المحتل الأميركي.
•2- الفشل الأميركي مع حلف الناتو في أفغانستان، والذي أدخل الإدارة الأميركية في تردد خطير حول صوابية أي قرار تتخذه، سواء بزيادة عدد القوات أو الانسحاب أو المراوحة.
•3- انفراط عقد محور الاعتدال العربي الذي كان يشكل الغطاء الوهمي للاعتداءات الأميركية ضد إيران.
•4- عجز الجيش الإسرائيلي عن المواجهة المنفردة، مقابل حركات المقاومة ودول المواجهة المباشرة (سوريا)، وغير المباشرة (إيران).
•5- عدم قدرة الاحتلال الأميركي على خوض حرب ثالثة، تضاف إلى حروبه في أفغانستان والعراق.
•6- تطور التحالف والتنسيق على مستوى محور الممانعة، وتمدد تحالفاته إلى دول أخرى (فنزويلا، البرازيل).
•7- كسر حاجز الخوف والهزيمة عند الشعوب المضطهدة، وتوقع توسع حالة الوعي الشعبي لصالح نهج المقاومة، نتيجة الإخفاقات والفشل المتكرر لنهج المفاوضات الذي انتهجته دول الاعتدال العربي والسلطة الفلسطينية، والذي توج باعتراف السلطة الفلسطينية بعبثية المفاوضات وعدم حصد النتائج المرجوة.
•8- ثبات فعالية نهج المقاومة في كل ساحات الاحتلال، وأبسط النتائج تظهر في قضية الأسرى، حيث أن عقدين من المفاوضات منذ اتفاقيات أوسلو لم تفرج عن أي أسير فلسطيني، بينما أسر جندي صهيوني (شاليط) سيحرر ما يقارب الخمسمائة أسير فلسطيني، كما استطاعت المقاومة في لبنان تحرير أسراها وجثامين شهدائها، بينما ينتظر المفاوض الفلسطيني الرسمي الصدقات والإعانات السياسية الإسرائيلية بالإفراج عن بعض الأسرى، ليعود ويعتقل بديلاً عنهم في اليوم الثاني.
بناء على الوقائع الميدانية، فإن المشروع الأميركي ليس قضاء وقدراً لا يرد، بل يمكن عرقلته وهزيمته، إذا ما توفرت الإرادة وتهيئة الظروف والقدرات المادية والعسكرية، والأهم منها التعبئة العقائدية ووضوح الهدف.
لكن المؤسف والمحزن أنه في الوقت الذي تتصارع فيه الدول حول ملفاتها النووية، ودورها الإقليمي والدولي، وحجز مقعد في المنظومة السياسية الدولية كما تفعل إيران وتركيا مثلاً.. نرى بعض البلاد العربية تعتبر أن أمنها القومي يرتبط بكرة القدم ونتائج المباراة، فيجتمع مجلس الأمن القومي لمعالجة ذيول تسجيل الهدف في مرمى فريقه الرياضي، ولم يجتمع طوال أحداث غزة التي تغلق معابرها حتى الآن.
عندما أخرج بعض العرب أنفسهم من دينهم وقيمهم وتاريخهم، خرجوا من دائرة الفعل والتأثير السياسي، وتحولوا إلى بنوك يستنزفها الاستعمار الحديث المتعدد الوجوه، فهاهي تركيا العلمانية تدخل إلى الساحة الدولية من موقعها الإسلامي، وهاهي إيران تدخل الساحة العالمية أيضاً من موقعها الإسلامي، وحركات المقاومة تثبت حضورها وفعاليتها من المنطلق الإسلامي.