يعيش الاسلام المعاصر صراعا جوهريا مع داخله والخارج، فالخارج المتمثل بأميركا وحلفائها جعلوا من الاسلام عدوا أساسيا وخطيرا يهدد الحضارة الإنسانية من خلال الإتهامات الملفقة ابتداء من تفجيرات في 11ايلول 2001 إلى إختراع تنظيم القاعدة الفضفاض والمشبوه وصولا إلى الغزو والاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق وحصار حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان وغيرها من الدول التي تدافع عن سيادتها، وحصار المسلمين في أوروبا وأميركا وتقييد نشاطهم ومنع بناء المساجد والمآذن بذريعة مقاومة الإرهاب، لكن مع كل هذه الإعتداءات الخارجية التي يمكن التصدي لها ومقاومتها بالوسائل المتاحة يظهر ما هو أخطر عبر ما يتعرض له الإسلام من الداخل على يد المسلمين علماء وعامة لتجويفه من مضامينه الجوهرية وتحويله إلى مكون ثقافي يعتمد على الطقوس والفرائض السطحية كمنع قيادة المرأة للسيارة، والإختلاط في المجالس مما يؤدي الى إلغاء جوهر الإسلام ومنظومة الحياة المؤدية إلى التغيير لضمان حرية الفرد والجماعة والعيش الكريم ومواجهة الظالمين وصيانة العدالة.
والتشويه للإسلام من خلال(الفتاوى)يتقدم علىى محورين إثنين:
- محور التشويه الحار الذي يعتمد العنف من ذبح وتفجير واختطاف.
- التشويه البارد والذي يسير على ركيزتين اثنتين متناقضتين ومتطرفتين .
متناقضتان يجمعهما التطرف المتناقض،وكلاهما يجمعهما قاسم مشترك يتمثل بمصطلح الفتوى التي يطلقها أشخاص يصفون أنفسهم بالفقهاء والمفتين، بدون مسوغ شرعي أو وفق آليات درج عليها السلف الصالح، فمن الفتاوى التي تظهر الدين بأنه حراك ثقافي يقيد الإنسان ذكرا أو أنثى مع تقييد شديد للأنثى وبالتعامل معها كمخلوق يتلقى الأوامر لخدمة مولاه المتمثل بالزوج أو الأب أو الأخ بما يتناقض مع الإسلام الذي صرح في القرآن الكريم ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)سواء كان رجلا أو إمرأة ، ومن الفتاوى التي لا يمكن إسقاطها على المنطق العقلي أو الإيماني والتي تحاول حل مشاكل ابتدعها السلوك الإنساني نتيجة فهمه الخاطئ للشريعة والتي فهمت الإسلام وفق فهم ضيق، قيد العامة بسلوك محرج وادخلته سجنا كبيرا بفعل الفتاوى الساذجة والغير صحيحة،وبعدها إجتهد ليحل مشكلته بفتوى تمثل مشكلة أكبر كفتوى( إرضاع الكبير) التي أفتى بها الشيخ العبيكان لحل مشكلة الإختلاط بين السائق الخادم وزوجة رب العمل ، وكذلك فتوى قتل الفأر(ميكي ماوس)رمز الأفلام الكرتونية لأنه من فئة الفئران،ويحل قتله في الحل والحرام لأن الفئران جنود إبليس، يضاف إليها فتوى شيخ آخر بجواز الإفطار في رمضان في حال انقطعت الكهرباء نتيجة الحر الشديد،فبدل أن يفتي هذا الفقيه بوجوب مبادرة الحكومة لتمديد الشبكات الكهربائية للقرى فلم يتجرأ على معارضة الحكومة فيتجرأ على التشريع الإلهي بجواز الإفطار.
ومن الفتاوى الجديدة لشيخ مصري،وصفه قراءة الفاتحة وسورة يس من القرآن الكريم بأنها شعوذة وسحر بالإضافة أن التبرك بفتح القرآن في المنزل او المحل أو المكتب سحر وشعوذة،وأما فتاوى تعظيم العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة،حيث يتم الالتفاف على بعض الأراء الشرعية المختلف عليها بين المذاهب ومنها (زواج المتعة) فقد ظهرت عند المعارضين لهذا الزواج فتاوى تقوم بنفس الفعل أو أكثر لكنها غيرت الإسم والصفة فصار هناك زواج(المسيار) ،والزواج العرفي في مصر،وزواج الكيف في أكثر من بلد .
والمشكلة أن الفتاوى صارت تصدر عن أشخاص وصفوا أنفسهم بالعلماء (رجال دين)وتحول الواحد منهم من طالب علم إلى عالم إلى فقيه بالكفر من لا يؤيده ويستبيح دمائه وأمواله ويمكن أن لا يكون أتباع(المعمم)الذين ينتحل صفة العالم- الفقيه إلا سائقه وخادمته ومن يحيط به مما لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ويتحول أميرا للجماعة الذي يفتي بالشرع والدين والسياسة والاقتصاد وكل ما يخطر على البال ويمكن أن لا يكون متعلما بل يباهي(بالأمية)التي تضلله وأن علمه كرامة إلهية يفتقدها الآخرون.
والفقهاء قسمان، فقيه عالم وفقيه جاهل ،والاسلام المعاصر أصابته سهام الصنفين معا، فالفقهاء العالمون يعيش اكثرهم تحت تأثير السلطة وعلى نفقتها وفي مؤسساتها،وعليهم وجوب الطاعة عند الشدائد لحماية النظام المتمثل(بالرئيس)أو الملك أو الأمير وتغطية كل أفعاله ليصبح ظل الله سبحانه على الأرض والعامل برسالته بعد خاتم الانبياء محمد(ص).
فترى هذا العالم – الفقيه يفتي ووفق غب الطلب السياسي، بجواز الصلح مع إسرائيل تحت ظل الأية الكريمة (وإن جنحوا للسلم فأجنح لها)وهي التي قتلت وأسرت واحتلت ولكنه لا يفتي بفك الحصار عن غزة (إنما المؤمنون أخوة)أو الحديث الشريف(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)حتى أنه يصرح بعدم علمه بحصار غزة ،وتبقى الفتوى سارية حتى لو نقضها العدو وتصبح اتفاقية كامب ديفيد(المقدسة)دستورا تتقيد به مصر ولا تتقيد بالاخبار الإلهي (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود) ، وإنه يجوز بيع الغاز المصري للعدو الإسرائيلي ومنعه عن غزة وتمنع عنها قوافل المساعدات وكل ذلك بعنوان الإسلام وفتاوى (فقهاء السلطان).
يتحدث علماء الدين في محاضراتهم عن سيرة رسول الله(ص)والصالحين من السلف من الخلفاء والصحابة عن الزهد التقوى والورع والإيثار ومساعدة الفقير والمحتاج والعمل في سبيل الله،روايات يرتاح السامع لها لكنها ستخرج من صدره أهات حارة وحزينة وهو يتطلع إلى الخطيب،منتفخ البطن من الشبع الزائد والمفرط،ويرى مسكنه الفخم وسيارته الفاخرة ومرافقيه وخدمه، ويمنن الناس بأنه يصلي فيهم وعلى جنائزهم ويخطب فيهم نهار الجمعة ويعظهم لكنه لا يتعظ ،ويعطي النموذج الأسوأ في السلوك الإجتماعي والديني.
رسول الله (ص) والخلفاء والصحابة الصالحين لم يسكنوا القصور ولا المنازل الفخمة أو يمتلكوا العقارات وها هو رسول الله (ص) يقول( لقد جعت ما لم يجعه أحد فقد كانت تمضي الثلاثون من الأيام والليالي ولا أكل إلا ما هو مخبوء تحت إبط بلال) وها هو الخليفة عمر يقول لمعاوية عند زيارته الشام ( أكسروية يا معاوية ....؟) اعتراضا على سكنه في قصر مزخرف مع الخدم والحرس والرفاهية وها هو الامام علي (ع) الموصوف بالزهد والعمل والمتصدق بإفطاره مع عائلته على المساكين والمبيت على الجوع، وغيرها من الأمثلة التي تصدع المتكلمين بالزهد وضرورة اتباع التعاليم.
إن تكاثر فتاوى التكفير بين المسلمين خاصة في العقد الأخير، والتي شرعت القتل الذاتي للأمة بتأجيج الصراع المذهبي وتطوير الخلاف الفكري ودفعه باتجاه الصراع المسلح كبديل عن وحدة الأمة بمواجهة الاحتلال الأميركي والإسرائيلي في أفغانستان والعراق وفلسطين والاحتلال الأميركي المقنع في دول الخليج عبر القواعد الأميركية وكذلك الاستعمار السياسي ومصادرة قرارها المستقل وانتهاك سيادتها وتحويل الأنظمة إلى( قائمة بأعمال) الدولة المركزية الأميركية .
كل هذه الوقائع التي حولت العرب خاصة إلى أمة غير موجودة سياسيا أو اقتصاديا وتم اختصارها ببراميل النفط والتحويلات المالية التي تلتهمها البنوك الأميركية والأوروبية، بينما ترزح الشعوب العربية والاسلامية تحت وطأة الفقر والحاجة للتنمية والمساعدة لم تنجح هذه الوقائع في إعادة الفتوى إلى نصابها الصحيح بوجوب الدفاع عن المقدسات في فلسطين وعن الثروات المستباحة في العراق وغيره من البلاد،و الدفاع عن الدين وكرامة الشعوب ولاتعمل هذه الحركات الجهادية من القاعدة والجماعات السلفية إلا ما يريح المحتل الأميركي عبرتأجيج الصراع وتوتير الأجواء في البلاد الآمنة وإفتعال المعارك بين الأنظمة والجماعات المسلحة أو بالصراع المذهبي والتفجيرات بين الجماعات المسلحة، وذلك لفتح الطريق أمام التدخل الأميركي والسيطرة على الأوطان، ولم تقم هذه الجماعات وخاصة القاعدة بأي عملية ضد الاحتلال الإسرائيلي ومؤسساته في الخارج أو ضد أي شخصية إسرائيلية أو أميركية بل تتجه إلى إفتعال التفجيرات ضد المدنيين الأبرياء في أوروبا مما يساعد على تعميم منظومة الحرب ضد الإسلام من خلال تعميم(الإسلاموفوبيا) التي إجتاحت العالم الغربي منذ احداث ايلول 2001 في اميركا وحاصرته وجردته من مقوماته الأساسية كدين للسلام والعقل والثقافة والتسامح ونشر الوعي والإنفتاح،و تحول إلى إسلام مبني على البرقع واللحى الطويلة والتقوقع والذبح والتفجيرات وسجن المرأة ومعاداة الحداثة والتطور ليصبح غريبا عن عصره ومجتمعه وتهديدا للحضارة الإنسانية،بعدما نجحت الصهيونية العالمية بتدمير المسيحية كدين على المستوى العقائدي والسياسي والحضور الإجتماعي وتم تحييدها عن المشاكل الإنسانية وحصارها داخل الكنيسة أو السلوك الفردي الروحي في أزمان محددة وطقوس لا تؤثر في السلوك الإجتماعي العام.
الإسلام أمام استحقاقات خطيرة فأهله وأبنائه يثخنونه بالطعن والتحريف وأعداؤه يرمونه بالإساءات والإفتراءات والحصار،والسؤال المطروح على العلماء أصحاب الوعي والثقافة وعلى جمهور المسلمين في كل المذاهب إلى متى سيبقى الجهلة أصحاب فتاوى التكفير والسذاجة والسطحية يقودون هذا الإسلام إلى الهاوية...؟ولماذا لا نبادر لتحمل المسؤولية وعلى كل المستويات لإستنقاذ الإسلام من التحريف ،ولماذا لا نسارع، لإعادة لغة الحوار والنقاش العلمي بين المذاهب والإعتراف بالآخر وإحترام قناعاته وإبقاء الحساب لله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين لأن الفتاوى والفتاوى المضادة حولت أمه الإسلام إلى أمة كافرة ،طالما أن كل الفرق تكفر بعضها بعضا،فلن يبق مسلم على وجه الأرض!.ويعفي أميركا من حروبها القادمة ويوفر عليها إستخدام الأسلحة ذات الدمار الشامل طالما أن سلاح فتاوى التكفير المفبركة والغير منضبطة تفتك بالعالم الإسلامي، وتحول أوطانه إلى ساحات قتال وإستدعاء للغزو بحجة حماية الإسلام، تحقيقا لأهداف الأعداء والمحتلين لالقضاء على الإسلام كمنظومة حضارية وثقافية وسياسية تحفظ شعوبها وتؤمن الدفاع عن حقوقها.
فليسارع العلماء الواعون والمثقفون الوطنيون على اختلاف قناعاتهم الفكرية للتصدي لأفعال تشتيت الأمة ولإطفاء نار الفتن والمذهبية والطائفية والقومية ،للبقاء على قيد الحياة السياسية والحضارية،وبعد انتفاء التهديد الخارجي يمكن للمختلفين فقهيا وعقائديا ايجاد الوقت الكافي للحوار والنقاش،ولنترك النقاش حول جنس الملائكة بينما يحترق العراق وفلسطين واليمن والصومال ، وتهيأ الظروف لإحراق أوطان أخرى....ويقاتل البعض ليحدد بالوكالة الموهومة عن الخالق ،من هم الكافرون من المسلمون ومن سيدخل الجنة أو النار، وهذا بيد الله سبحانه وتعالى ولا يملك الفقيه الجاهل ، من يكفر الأخر القدرة على استنقاذ نفسه الضعيفة ؟.