الثــورات العربيــة بيــن المصـادرة والإستنــزاف
د.نسيب حطيط
بعد عقود من القمع والصمت،انتفضت الشعوب العربية ضد أنظمتها وحكامها مطالبة بالحرية والعيش المشترك والديمقراطية،للمشاركة في صناعة مستقبلها وإدارة حاضرها،وإستغلال ثرواتها الطبيعية بعيدا عن إستثمار الآخرين لها عبر وكلائهم من الملوك والرؤساء.
وتتميز هذه الثورات بعدة مواصفات تخرج عن المألوف والسياق التاريخي للثورات السابقة ومنها:
- عدم وجود قيادة فردية لأي ثورة،وغياب القيادة الجماعية المنظمة،حيث تبدو قيادة الثورة قيادة(هلامية)ضبابية غير مرئية تعيش في(باص القيادة)الذي يتسع لأكثر من جهة سياسية قيادية لكل منه برنامجها وأهدافها ووسائلها ومنهجيتها،يجمع بينها إسقاط النظام أو إسقاط الرئيس،وبعدها ستتفكك هذه المنظومة القيادية المهمشة وتصبح عرضة للتحالفات الأمنية والجانبية والخارجية لزيادة حصتها في النظام والحكومة والإمتيازات،بحيث تؤخذ وتصادر بالمفرق،أو تبرز قيادات(مصنعة)خارجيا توضع على طاولة الإستحقاقات في ذروة التنافس السياسي والإنتخابي في غفلة من المتخاصمين وبدعم قوي من المتآمرين.
- التوقيت المفاجئ للثورات ودون تحركات تمهيدية على المستوى المحلي(تونس-مصر....)والتطور المفاجئ للأحداث الميدانية والسياسية ،وحتى المواقف من الحلفاء الأميركيين والعرب،حيث اشتعلت الأحداث من خلال أحداث فردية(إحراق التونسي البو عزيزي) لنفسه احتجاجا على منعه من بيع الخضار،وانفجرت الثورة التونسية دون قيادة الإسلاميين (حركة النهضة الإسلامية)أو الأحزاب العلمانية أو النخب الثقافية التي التحقت متأخرة بالثورة،كذلك في مصر حيث كان مقتل الشاب خالد سعيد تحت التعذيب(والذي لم يكن الحالة الأولى)والقاسية في مصر،حيث تطورت سرعة الأحداث بالتزامن مع الصمت الأميركي وغرور نظام مبارك وأجهزته وأمور مخفية لم تظهر حتى الآن.
وبعد أحداث مصر وتونس انفجرت في اليمن وفي ليبيا والبحرين والأردن وسوريا والجزائر والمغرب ومسقط وبشكل خجول في السعودية وكأن شيئا ما يربط بين مواقيت هذه الثورات مع أن السبب الظاهري هو محاولة الشعوب تقليد بعضها البعض أو إغتنام الفرصة التاريخية أو كسر حاجز الخوف و(الفوبيا)الأمنية التي كانت تحكم الشعوب أو أن شيئا كان مدبرا كشفته واستولدته الأحداث....!؟.
-حصر المطالب الشعبية حتى الآن بالإصلاحات الداخلية والوضع المعيشي وتحسين الخدمات دون إعتراض واضح على السياسات الخارجية خاصة العلاقة مع إسرائيل وأميركا،والقضية الفلسطينية،وهذا ما يهدد الثورات بالإنفجار من الداخل لأن حصر المطالب بالحقوق والمكتسبات الشخصية مما سيرتد حالةمن التشتت والتناحر بين مكونات الثورة ومحاولة بناء الثقافة الشعبية على معالجة الهموم المعيشية والمحلية الوطنية بعيدا عن القيم الوطنية والقومية والإنسانية،التي تشكلها ثقافة المقاومة والممانعة والتي تشكل الحصانة الثقافية والميدانية للحضارة العربية والإسلامية،التي تكاد تسقط في أيدي الإستعمار والإحتلال والتبعية الإقتصادية للغرب،بعدما فقدت قرارها وهويتها السياسية،فليس المهم أن تعيش لتأكل بل أن تأكل لتعيش عزيزا وكريما وحرا،فالعبيد كانوا يأكلون لكنهم فقدوا إنسانيتهم ،ونحن العرب والمسلمون نفقد حريتنا وهويتنا،حتى صارت رسائل الوهم عبر الفايسبوك تحرك الآلاف أو الملايين دون السؤال عن مصدر الرسالة وحقيقتها وكاتبها وأهدافها،ودون تبيان مصداقيتها وأهدافها الحقيقية فرب كلمة حق يراد بها باطل،خاصة وأن الفاسقين من السياسيين والعلماء والمأجورين يصيبون أوطانهم بالكلمات والمواقف القاتلة مقابل مال من هنا أو منصب موعود هناك .
-عودة(يوم الجمعة)و(المسجد)و(الفتوى الدينية)،وخطب(العلماء)،إلى ساحة المعركة لتحريك الجماهير لإنطلاق المظاهرات أوالتعبئة العاطفية والوجدانية،والإستناد إلى النص القرآني والأحاديث النبوية الشريفة في مواجهة الظالم ونصرة المظلوم والمطالبة بالحقوق والحرية والعيش الكريم والوحدة في الصف،والتعايش مع الآخرين من أتباع الديانات الأخرى،وهذا ما يمثل الفهم الصحيح للإسلام،يقابله من جهة أخرى استغلال خطير ودنيئ لهذه المنابر والأيام المقدسة حيث يستغل الإنتهازيون والمتحالفون مع أميركا التحريف الفاضح للإسلام بفتاوى وعاظ السلاطين بعدم جواز التظاهر(وفق الطلب من المرجعيات السياسية) فمرة يكونالتظاهر واجبا ومرة أخرة يكون حراما،كذلك إثارة النعرات الطائفية والمذهبية(الشيخ القضاوي وغيره)إستعمال السلاح ضد المدنيين وتشريع الإعتقال التعسفي والتعذيب إذا كان المتظاهرون لا يتبعون سياسيا أو عقائديا للنهج الأميركي وأتباعه، كما حصل في(البحرين وسوريا)،وهذا ما يوجب أن يتصدى لهذه الظاهرة علماء الدين الذين يؤمنون بالوحدة الإسلامية،ويؤمنون بمقاومة إسرائيل وأميركا وتحرير المقدسات،ونصرة المظلومين أيا كان مذهبهم فالإسلام مع المظلوم والمحروم بعيدا عن دينه ومذهبه احتراما لإنسانيته وفق الرسالة الإسلامية المباركة.
-اعتماد الثورات في التواصل والتعليمات والتبعية على الفايسبوك والبريد الإلكتروني أي الأنترنت والكهرباء والأقمار الصناعية، والمشكلة أن (الأنترنت والأقمار الصناعية) بيد أميركا وحلفائها ،والكهرباء والإتصالات الهاتفية الأرضية بيد الأنظمة، وبالتالي فإن العمود الفقري لهذ الثورات لا يمتلك الإستقلالية أوالقوة الضرورية لتواصل القيادة(إن وجدت)مع الجمهور العام،بل أن هذا التواصل الضعيف والهش يمكن التحكم به والتشويش عليه أو الغاؤه ساعة يشاء الأميركي وحلفائه،ويمكن في لحظات مفصلية أن تقطع الإتصالات فتصبح القيادة المفترضة وكأنها معزولة وتحت الإقامة الجبرية(إلكترونيا)وتصبح الجماهير عرضة للإشاعات والأخبار الملفقة عبر الفضائيات التابعة للمخطط الأميركي وبالتالي فنحن أمام ثورات وصفت(بثورات الفايسبوك)لكنها ثورات(الزر)الواحد الذي لا نمتلك مفتاحه وهذا هو الخطر الأعظم لأننا نتبع وننفذ كلمات من لا نعرفه ونسمع ما لم يحدث أو خلافه ،ولذا فإن الثوار أصحاب الأصالة والوطنية والأهداف السامية سيضيعون بين شياطين السياسة والمال والمضللين، وسيستدرجون إلى العمل المسلح الذي يهدم الأوطان بأيدي أبنائها بدل تخريبها بأيدي المحتلين كما حدث في العراق وأفغانستان وفلسطين وهذا ما تظهر بوادره في ليبيا وسوريا والبحرين واليمن..
إن الثورات العربية تعيش إرهاصات إجهاضها أو مصادرتها أو تفجيرها من الداخل،سواء بالصراع على السلطة أو التفتيت والشعارات الطائفية أو القومية أو عبر الإستنزاف المسلح في ليبيا الذي استولد التدخل الأجنبي(المشرع)عربيا ودوليا وعلى مستوى الثوار، مما يهدد وحدة ليبيا الجغرافية بالتقسيم أو استنزاف النظام والثوار لتسهيل الإستيلاء على المقدرات النفطية وتدجين الأنظمة الجديدة.
ومن المخاطر على الثورات الجديدة أنها تفتقر إلى القدرات التنظيمية والإقتصادية والبرامج البديلة بالإضافة للضغوط التغلغل الأميركي والثورات المضادة و نتيجة عدم الخبرة أو القدرة على رفض العروض الإقتصادية الأميركية التي تحملها وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون ورجال الأعمال مما سيضيق الخناق على الثوار ويقيدهم بالقيود والسلاسل الإقتصادية كمقدمة للقيود السياسية، وللرد على هذه المخاطر لا بد من وحدة الثورات العربية أو التنسيق فيما بينها بعنوان(اتحاد الثورات العربية)أو هيئة تنسيق بين الثورات العربية لحماية بعضها البعض أو الإستفادة من خبراتها أو تشكيل دوائر الدعم والحماية خارج ساحات كل ثورة ،كما تفعل الأنظمة الآن باتحادها في مواجهة الشعوب والثورات القائنة والمحتلة.
لأن مصير الأمة وشعوبها سيكون واحدا خاصة وأن المنطقة تتعرض للتجزئة والتفتيت والإضطرابات الأمنية وعدم الإستقرار ليسهل إبتلاعها عبر استدراج الحماية الأميركية أو تغير البوصلة من وجهة العدو الحقيقي(إسرائيل)إلى أعداد جددوهميين ضمن الأمة الإسلامية أو العربية.
نداؤنا لجميع المثقفين والسياسيين والإعلاميين،كل في موقعه لتشكيل جبهة لحماية الثورات وتوعيتها وكشف الألاعيب ،وتوجيه النصح والدعم للأنظمة الممانعة والمقاومة لنصحها بالإصلاح وهو حق للشعب والمواطنين ،ودعمها وهذا واجب كل الوطنيين للحفاظ على ما تبقى من أنظمة وحركات مقاومة تحفظ حقوق الأمة وهويتها وحضارتها.