من المعجزات السياسية أن تلد الجامعة العربية في شيخوختها تجمعات جهوية جديدة باسم الاتحادات التي تُسقط من تسميتها كلمة "العربية"، مثل "مجلس التعاون الخليجي"، وما يؤسَّس الآن من "الاتحاد المغربي"، الذي يضم الدول العربية في الغرب الغربي، بانتظار مولود جديد يُسمى "اتحاد الشمال الإفريقي" (مصر والسودان وليبيا والصومال..) على أن يلتحق الأردن، سواء بقي الأردن الذي نعرفه أو أصبح الوطن البديل للفلسطينيين، بـ"مجلس التعاون الخليجي"، أو يكون نقطة التواصل مع الدولة اليهودية في فلسطين، بعدما تعلن "إسرائيل" نفسها دولة يهودية عنصرية. لقد استفاقت الجامعة العربية في شيخوختها لتمارس "مراهقتها" السياسية، وهي التي ظلت جليسة قاعاتها، ولم تخرج إلى الساحات العربية إلا في بعض الاستثناءات، مثل الحرب الأهلية في لبنان، وكانت "كلمة" الجامعة العربية مسموعة من شعوبها أيام القادة العرب الكبار حتى السبعينات، لكنها صمتت وتحوّلت إلى مومياء سياسية، بعدما سكتت عن جرائم "إسرائيل" في لبنان وفلسطين، وبعدما غابت عن احتلال العراق لسنوات، وكأن العراق في مجاهل أفريقيا، فلم يزره مسؤول من الجامعة العربية إلا مرة واحدة.
تذكّر الأميركيون شيئاً من التاريخ والمؤسسات المنقرضة، وفتشوا في مستودعات السياسة، ونبشوا رفات الجامعة العربية وأحيوها بالمال والوعيد عبر المقاول القطري "الأعظم"، حتى ينفذوا مسرحية إعطاء الشرعية لإسقاط القذافي (المتعاون معهم) على طريقته، وبالاتفاق والرضى مع الغرب.. اغتصبوا ليبيا عبر الناتو، بعدما وفّر لهم القذافي الأرضية والبيئة الداعمة، فأوعزت أميركا للجامعة العربية العجوز أن تطلب التدخل الخارجي، لعجز العرب عن حل المشكلة الليبية، لابتلائهم جميعاً بمرض سلطة القذافي، فلا ديمقراطية ولا عدالة ولا حقوق إنسان، بل المدهش أنهم يعيبون على القذافي 40 عاماً من الحكم وعدم التعددية السياسية، وهم (أي الملوك والأمراء) يحكمون منذ عهد أجدادهم وآبائهم وتأسيس ممالكهم حتى الآن، وللورثة من بعدهم!
اجتمعت الجامعة العربية وطلبت اغتصاب إحدى بناتها (ليبيا)، وبواسطة الأجنبي، وتعهدت بدفع أجرته وضيافته من مدخرات ليبيا.
سكتت الجامعة العربية عن اليمن، وتركت الملعب لمجلس التعاون الخليجي؛ القوة العظمى الجديدة التي يهدد بعض أعضائها (قطر) روسيا الاتحادية، وباتت تقود الآن الأمة العربية، وتنشر الديمقراطية، بعدما أعطى أميرها أبهى صورة ديمقراطية بانقلابه على أبيه، ولم يقتله بل تركه حياً!
ديمقراطية البعض أيضاً في مجلس التعاون الخليجي تتمثل في درع الجزيرة، الذي "يدمقرط" (من الديمقراطية) على طريقته بـ"الشوزن" البحريني، وهدم ميدان اللؤلؤة، كما هُدمت آثار الرسول الأكرم في الجزيرة، وقُتل المتظاهرون السلميون في القطيف والعوامية، وهو الذي مارس القتل في المسجد الحرام أيام (جهيمان).
الجامعة العربية وقادتها الجدد (السعودية وقطر) لم يسمعوا بتهويد القدس وحصار غزة، ولم يتداعوا لتأليف قوة حفظ سلام بين "إسرائيل" وغزة، فهم أصدقاء "إسرائيل"، وعرب أيضاً، وبالتالي يمكن أن يلعبوا دوراً فاصلاً بين الاثنين، لأن دور القتال ضد "إسرائيل" قرار مستحيل، لأن سيدهم الأميركي لا يبيعهم صفقات السلاح الوهمية إلا بشرط تعهدهم بعدم تهديد أمن "إسرائيل".. فهل تحركت الجامعة العربية لنجدة العراقيين من مجازر الاحتلال، أم أن بعضها كان يرسل التكفيريين ولا يزال لاستباحة الدم العراقي.
الجامعة العربية كـ"الأم" التي تمارس "القوادة" السياسية ضد بناتها وأبنائها، فهي تجول في العالم، وتنادي ليدخل الأجانب بيتها، ويهاجمون غرف نوم بناتها، ولأن الصوت القطري "جهوري" بسبب الغاز والوقاحة، يعاونه الصوت السعودي، فهما يصرخان في الساحات الدولية لتأمين الزبائن، بعدما شعروا بالربح والرضى بعد اغتصاب ليبيا، ويفتشون عمن يغتصب سورية التي اتهمتهم في رجوليتهم في حرب تموز، واتهمتهم بأنهم "أنصاف الرجال"، فتوعدوها بأنهم سيأتون بفحول الأرض ووحوشها البشرية، ليمارسوا فعل الاغتصاب لها، وهذا ما بدأه المسلحون الذين أرسلوهم إلى حمص ودرعا وإدلب، يخطفوون ويقتلون ويغتصبون النساء، ويسرقون، ولم يكتفوا، بل يحاولون استقدام الناتو و"الإسرائيليين" لينتقموا من سورية، ويحشدوا الأتباع، فمنهم العميل، ومنهم المرتزق الذي يشرى ويباع.
لقد أدهشني تصريح أحد قادة حماس (إذا كان صحيحاً): "إن حماس غادرت دمشق احتجاجاً على الممارسات الوحشية للنظام ضد المعارضة"، ناسين كيف سيطرت حماس على غزة عبر الحل الأمني، مع كل الظروف الاستثنائية التي يمثلها الاحتلال "الإسرائيلي"، ونسوا أن القيادي الحمساوي ينعم بديمقراطية البلدان التي تستضيفه في قطر وتركيا والأردن والإمارات، وينعم بالأمان وهو يقيم قرب السفارة الإسرائيلية في القاهرة، والآخر قرب مكتب الاتصال "الإسرائيلي" في الدوحة، وأيضاً فوق السفارة "الإسرائيلية" في عمان.. ومع الأسف لم يصرّح أي قيادي حمساوي بالنسبة إلى الكهرباء المقطوعة في غزة من قبل "إخوان مصر"، الذين سيطروا على السلطة في مصر، ويحاصرون غزة حتى الآن.. وما زالت روابط الأخوة بين غزة ومصر تمر عبر الأنفاق.
المال الخليجي أكثر حجماً، والمكاتب والوسائد أكثر راحة، لكنها أقل شرفاً وأكثر بعداً عن فلسطين.
ستشيّع الاتحادات الجهوية في العالم العربي جنازة الجامعة العربية بعد زوال هذا العالم العربي ككيان سياسي بفضل القادة الأعراب الجدد المنفوخين بالغاز والنفط والمال.
www.alnnasib.com
د. نسيب حطيط