العمارة الملتزمة والمسؤولية الاجتماعية نسيب حطيط
تعتبر "العمارة" من المهن الحرّة الأساسية عبر التاريخ ،منذ ان ولد الإنسان وبدأ بالتفتيش عن مأوى وسكن خارج الكهف الطبيعي وبدأت "حرّة" على مستوى التصميم والجمالية ولا زالت، لكنها بقيت مقيّدة بقوانين البناء والشروط التي تفرضها السلطة الحاكمة بشكل مباشر ،بالإضافة للقيود التي تفرضها البيئة المحيطة والجغرافيا التي تبني فيها والمستوى المعيشي الذي تعيشه الجماعة البشرية التي تستخدمها وكذلك العادات والتقاليد والإيديولوجيا والأديان .
لقد مارس هذه المهنة المتخصصون او الأشخاص العاديون الذين بادروا لتلبية حاجاتهم الشخصية في السكن او حاجات مجتمعهم واعتمدوا على قدراتهم الذهنية والجسدية وذوقهم الجمالي ارتكازاً على المبدأ الأساس المتمثل بتلبية الحاجات الوظيفية للبيئة المحيطة من السكن او تأمين الحظيرة للمواشي وغيرها أي ان العمارة كانت وليدة حاجة للجماعة في عصرها ولمعالجة المشاكل والأخطار من التقلب المناخي والوقاية من الحرارة والبرودة والأمطار والرياح الى تأمين ألأمن من الوحوش والحيوانات ،ثم تأمين الخصوصية ،هذه المصطلحات والوظائف لم يدرسها او يتعلمها "معلم العمَار" الذي حمل هذا اللقب حتى تاريخنا المعاصر ،حيث كان يوكل بناء البيت الى "العمّار" في القرية فيقوم بالتصميم والتدعيم والبناء وفق خبرته او تلبية لحاجة الزبون .وذلك قبل ان تظهر العمارة الأكاديمية في الجامعات والمعاهد والكليات ...اي ان العمارة "التزمت" معالجة مشاكل بيئتها "فطرياً" لتؤسس لما يعرف "بالعمارة الملتزمة" ..
ان "العمارة الملتزمة" ترتكز على ان تلتزم تأمين الحاجات الأساسية للجماعة البشرية التي تستخدمها دون إضافات كمالية او جمالية أي ان تؤمن الوظيف بأقل التكاليف واستعمال المواد المتوفرة محليا دون الإعتماد على المستورد وغير المتوفر او المتوفر بشروط وباسعار غالية تمنع الأكثرية من البناء والعمارة الملتزمة تسعى لتوفير خدمتها وتصاميمها للأكثرية الشعبية على اختلاف طبقاتها دون حصرها بالطبقة الميسورة.
إن "العمارة الملتزمة" تعمل على حماية الهوية الثقافية والحضارية للجماعة وحفظ الذاكرة لمقاومة الذوبان او الإلغاء وان تكون في خدمة بيئتها المحيطة والتفتيش عن حلول للمشاكل التي تواجه السكان ليكون "المعمار" رائدا اجتماعيا في مجتمعه وخبيرا اقتصاديا وفنا لغضفاء نوع من الجمالية على بيوت الفقراء لكي تكون العمارة متحركة غير جامدة او موحشة وعلى "المهندس المعماري" ان لا ينحاز الى "النخبوية" او " والنرجسية" بحيث يعمل لإبراز وإظهار نخبويته على المصلحة والمنفعة العامة فيتجه نحو "غير المألوف"... ليسطع نجمه فيكون ضمن دائرة الأنانية بدل ان يكون مثالا للجماعة.
ان مسؤولية الجامعات وكليات العمارة توجيه الطلاب نحو العمارة الملتزمة كمدماك أساسي ثم تطوير خبراتهم نحو السلم المعماري المتدرج نحو العمارة الجمالية او الرمزية وغيرها من أنواع العمارة خاصة في مجتمعات الدول النامية والفقيرة ،حيث يشكل النمو السكاني مشكلة كبيرة لعدم توفر المسكن او توفره بأسعار غالية فوق القدرات المالية للأكثرية ،مما ينعكس اجتماعيا على الشباب ويؤخر سن الزواج او يلغيه مع اثاره السلبية الاجتماعية والسلوكية.
ان مجتمعنا اللبناني يشابه ويتشارك مع مجتمعات الدول المحيطة بالمشاكل المعيشية والإقتصادية والتي فرضت نفسها على الحياة العامة سواء بتزايد عد المهاجرين او تزايد عدد غير المتزوجين، مما يحملنا مسؤولية التفتيش عن حلول في العمارة لمعالجة تأمين مسكن للمتزوجين الجدد او للعوائل الفقرة خارج السياق السابق والذي تحوّل الى "تابو" متكرر حول عد الغرف ووظيفتها ،فكانت تصاميم الشقق التي تحتوي على (صالون وغرفة طعام) حتى في المناطق الشعبية والقرى دون ان يستعملها اهل الدار ،فتبقى مغلقة لمناسبات حزينة او افراح معدودة ,او كوضع "ا baignoire. البانيو-بالتعبير الشعبي " "حوض الاستحمام" دون استعماله سواء في القرى او المدن بسب عدم توفر الماء او لضيق الوقت او المساحة فانقرض هذا النموذج تحت ضغط الأمر الواقع ،مما يدفعنا للتفكير بالبدء بتصاميم "لشقق وظيفية" لا تحتوي الكماليات تتشكل من غرفتين ومطبخ وحمام ،لمعالجة مشكلة غلاء الشقق ولمعالجة الأثار الاجتماعية المترتبة وعلى المهندس المعماري ان يكون مرشدا اجتماعيا واقتصاديا لصاحب البيت لا ان يكون مستدرجا له ليدفع الكثير من التكاليف لتأمين ربحه الشخصي وان يتجه لإستعمال المواد المتوفرة محلياً وعدم الهرولة نحو المواد المستوردة بعنوان المواد الجيدة والمميزة .
اننا نوصي أساتذة العمارة في الجامعات ان تكون مشاريعه الأكاديمية من ضمن حاجات مجتمعهم وتعميم مفاهيم "العمارة الملتزمة والواقعية وعدم الجنوح نحو العمارة الخيالية ولمن يحتج بأن ذلك قمع للإبداع وحصار له ،فهذا امر غير صحيح بمكن للمهندس المعماري ان يظهر ابداعه بتصميم وبناء أي منشأة ضمن المتوفر وبأقل التكاليف ومعالجة المشكلة وإيجاد الحلول وتأمين الحاجات وتحقيق أحلام الناس... فإذا استطاع ان يبدع في هذه المنظومة يفوز بلقب "المهندس المعماري الملتزم المبدع" بالإضافة لفوزه بالمساهمة في تثبيت دروره الوطني والإجتماعي والإصلاحي.
*رئيس قسم الهندسة المعمارية – الجامعة اللبنانية –الفرع الأول.
رئيس الفرقة البحثية (للتنظيم المدني) المعهد العالي للدكتوراة .