د.نسيب حطيط
يعيش الموارنة ارهاصات جدلية حول هوية الوجود الماروني(المسيحي)في لبنان، وهل ان الهوية المشرقية والإنتماء للمحيط العربي القريب بأغلبيته الإسلامية، تؤمن منظومة الأمان العقائدي والوجودي للمسيحيين،أم أن الإنتماء للغرب (المسيحي)البعيد جغرافيا،يمنح الموارنة والمسيحيين،الرعاية وحفظ الحقوق،بناء على تجربة دولة لبنان الكبير والإمتيازات السياسية،وما بين هاتين الفكرين،ظهرت فكرة إنفعالية من خارج السياق العقائدي للمسيحيين،ومن خارج التفكير العقلاني والحكيم،وهي فكرة التحالف مع العدو الإسرائيلي،تحت وطأة (البروباغندا) الإعلامية والنفسية التي صدقها حتى العرب عموما،بأن إسرائيل تمثل القوة المسيطرة التي لا تقهر في الشرق الأوسط،وبالتالي فإن التحالف معها كفيل بحفظ المصالح والحقوق،وهذا ما اندفعت إليه الكتائب اللبنانية وبعدها القوات اللبنانية،وجيش لبنان الحر بقيادة الضابط سعد حداد،وجيش لبنان الجنوبي بقيادة الضابط إنطوان لحد .
وقد تعرض الموارنة خصوصا والمسيحيين عموما،لحالة من عدم الإستقرار السياسي والديمغرافي نتيجة الضبابية الفكرية والرهانات الخاسرة ،وبدأوا يتحولون إلى ( الفكرالمياوم)، أي اللحظوي واليومي،وقرارات ردة الفعل وليس الفعل بحد ذاته،بعد غياب المفكرين أصحاب الرؤى العميقة وغير السياسية المتعلقة بالمناصب والمكاسب.
مما جعلهم يدفعون اثمانا باهظةعلى مستوى الديمغرافيا،وتعرضوا للتصحر السكاني في لبنان،نتيجة قراراتهم الخاطئة التي بدأت مع الحرب الأهلية عام 1975 وما تلاها من تهجير،والتي تطورت بشكل خطير بعد إنحيازهم للإحتلال الإسرائيلي عام 1982 ،مما أدى إلى تهجيرهم وفرارهم من الجنوب (شرقصيدا ) وأقليم الخروب،الشوف وإنحسارهم جغرافيا الى منطقة كسروان وجزء من جبل لبنان وقد تم إستغلال بعض المسيحيين على مستوى الأحزاب والشخصيات الكنيسية لتشكل رأس حربة بيد الغرب المتمثل بالإدارة الأميركية وأوروبا ( فرنسا خاصة) لتوجيه اللكمات لقوى المقاومة في لبنان وسوريا،تحت وطأة عاملين ،هما الخوف المسيحي على الوجود والمصالح،نظرا لكونهم أقلية ومعزولة في محيط عربي مسلم يساهم البعض بأفعاله المشبوهة بإخافة المسيحيين وبين ضغوط غربية وإسرائيلية تراوحت بين الترهيب والترغيب.
ويقف المسيحيون(الموارنة) كرواد للوجود المسيحي في لبنان أمام مشروعين متناقضين محكومان بالتصادم وعدم التعايش مع أنهما يشتركان في هدف واحد يتمثل بالسؤال الصعب كيف نحمي الوجود المسيحي في الشرق؟!.
المشــروع الأول: ويرتكز على ضرورة الإنتماء والتحالف بين لبنان والعالم الغربي عبر الثلاثي(أميركا-فرنسا-إسرائيل)وقشرةعربية تتمثل بدول ما يسمى الإعتدال العربي المتحالفة مع أميركا ويقود هذا المشروع القوات اللبنانية وعلى رأسها سمير جعجع وما تبقى من الكتائب اللبنانية،ويحظى هذا المشروع بدعم وغطاء وتبني البطريرك نصر الله صفير من موقعه الكنسي الرسمي.
المشــروع الثانـي: ويرتكز على ضرورة المراجعة النقدية للفعل والموقف المسيحي التاريخي،ونتائج الموقف المسيحي تاريخيا وفي العقود الماضية والتجارب المريرة،بحيث أن الأمن الحقيقي للمسيحيين اللبنانيين خصوصا والشرقيين عموما،يكون بالإندماج والإنسجام مع المحيط العربي المشرقي،لحفظ الهوية العقائدية للكنيسة الشرقية ولحفظ المصالح والحقوق،كمواطنين في دولهم وأوطانهم وليس (أهــل ذمة)عند المسلمين،مع ضرورة أخذ العبرة،من الدعم المؤقت أو الوجود المؤقت للغرب المسيحي،وما تلاه من نتائج مدمرة على المسيحيين الشرقيين،فبعد الحملات الصليبية والتي دامت أطول فترة زمنية للجيوش الصليبية في الشرق،لم يحصد المسيحييون الشرقيون،سوى(فشة الخلق)التي مارسها البعض ضدهم ثأرا لما فعله الصليبيون في العالم الإسلامي من قتل وتدمير،أوبالهجرة خوفا من الإنتقام،وكذلك في زمن الإنتدابين الفرنسي والإنكليزي للمنطقة،التي ربح فيها المسيحيون بعض المغانم المؤقتة،لكنهم دفعوا ثمنا باهظا في فلسطين والأماكن المقدسة،ولم يبقى من المسيحيين في فلسطين إلا العدد القليل مع أن فلسطين تمثل مهد المسيحية،ومهد السيد المسيح(ع)والحج المقدس،وتم إستبدال الحج الطبيعي والمنطقي بالفاتيكان في روما التي تعتبر القبلة المسيحية،.
وفي العقود الأخيرة،دفع المسيحيون ثمن تجربة التحالف مع إسرائيل فتهجروا،وهاجروا،ولجأوا إلى فلسطين المحتلة ،وتركوا وحيدين على الحدود الجنوبية،بعدما جفف الإسرائيلي عروقهم وتركهم لشأنهم بعد الإندحار الإسرائيلي عام 206،وفي العراق كان المسيحيون قبل الغزو الإحتلال الأميركي مواطنين عراقيين لهم نفس الحقوق والواجبات،فجاء الغزو ومفرداته الميدانية من التكفيريين والقاعدة المشبوهة الإنتماء والهدف،لتهجير المسيحيين ولم يبقى إلا ثلثهم في العراق ووالمور إلى الأسوأ.
وكانت خلاصة هذا التحليل والمراجعة،أن الدعم الغربي مهما كان حجمه كبيرا او قويا فإنه يحمل طابع المؤقت وغير الدائم وغير المستمر،بل صفة الزائر الضيف،الذي عندما تتأمن مصالحه يترك أهل الدار لمصيرهم المجهول.
ويرى رواد هذا المشروع أن البوابة الواقعية،والمنطقية للمحيط العربي،تتمثل بسوريا بحكم الجغرافيات بشكل أساسي وبحكم الروابط والمصالح المشتركة بين البلدين على جميع الصعد،وقد أثبتت التجربة أن العداء لسوريا،يخنق لبنان عموما،ويخنق المسيحيين خصوصا لأنهم إذا اتجهوا بإتجاه إسرائيل سيوضعوا بمواجهة شركائهم اللبنانيين مما ينتج حربا أهلية بإستمرار،وبطبيعة الحال فإن موازين القوى ليست لصالحهم،وإن اتجهوا بإتجاه سوريا،تامنت لهم عوامل الأمان والحماية والعمق الالعربي ،والهدوء على الجبهة الداخلية مع مواطنيهم اللبنانيين.
وبما أن العمل السياسي في منطقة الشرق الأوسط خصوصا يعتمد على البعد الديني وفق تخطيط الإدارة الأميركية لإحداث الفتنة المذهبية والطائفية،ولأن الأحزاب العلمانية لم تنجح بالشكل المطلوب مما يوازن نجاح الأحزاب والقوى الدينية لأن الحافز المسير والجامع الجمهور العام،بحكم البيئة والتربيةالثقافيةن هو العامل الديني بشكل أساسي،فإن الصراع داخل المجتمع المسيحي،يدور حول من يكتسب الغطاء الديني المباشر لمشروعه السياسي،وبما ان الوجود السياسي يستند إلى الفكر الديني فلا بد من البحث عن الجذور الفكرية والأماكن المقدسة والقديسين للتواصل معهم لبناء الهوية الحضارية والسياسية لأي جماعة بشرية للإرتباط بوتد حضاري في خضم العواصف السياسية والحضارية والفكرية التي تتعرض لها المنطقة.
ولأن البطريركية المارونية في لبنان أخذت موقفا سياسيا غير محايد،و إنحازت لمشروع سياسي يراهن على الغرب وتدعو لإغتنام الرياح الغربية المؤاتية بعد إغتيال الرئيس الحريري عام 2000.
ذا فإن التيار المسيحي المشرقي والذي بدأت ملامحه بالظهور بالتحالف بين المردة و التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون،مع الرئيس السابق أميل لحود ومعهم الشخصيات المسيحية الوطنية،فإنها أرادت التوجه إلى المنبع العقائدي في مكان مولد(مار مارون) في سوريا،للإرتباط با لجذرالأصلي العقائدي،ردا على الفرع العقائدي في بكركي المنحازة للغرب ومنع الإحتكارالتمثيلي للبطريركية،مقدمة للتقدم في باتجاه مسيحيي الشرق في العراق وفلسطين وغيرهما في الوطن العربي.
ومن هنا كان المشروع السياسي الذي يحمله السوريون لوطن عربي فوق الطوائف والمذاهب،مع الإقرار والإحترام لها ولمنظومتها العقائدية والأخلاقية،في خدمة المشروع السياسي القومي والوطني المقاوم.
لقد بدأ صراع القداديس تتويجا للصراع السياسي المحتدم،و تشيرالوقائع إلى أن المشروع المسيحي الوطني،سينتصر على المشروع المسيحي الذي يمثل نافذة الغرب على المنطقة وعلى المسلمين والوطنيين فتح الذراعين وإحتضان المسيحيين الوطنيين لدعم جبهة المواجهة الشاملة للمشروع الإستعماري الأميركي الجديد.