فرنســا وإخفاقــات ساركــوزي
د.نسيب حطيط
كي لا ننسى وللتذكير فقط، فإن فرنسا قد قتلت أكثر من مليون شهيد في الجزائر عند إحتلالها وكانت تعاقب بالإعدام كل معلم جزائري يعلم الأطفال القراءة والكتابة، وللتذكير أيضا فإن فرنسا استعمرت دول المغرب العربي وحاصرت اللغة العربية وأحلت مكانها الفرنسية التي تظهر بوضوح في المجتمعات المغاربية، وفرنسا هي التي احتلت لبنان وسوريا وقسمت العالم العربي في معاهدة سايكس-بيكو إلى دول متناحرة ومصطنعة.
ووفاء لتاريخها الإستعماري الدموي تواصل فرنسا نهجها الإستعماري في العصر الحديث،حيث تعاني السياسة الفرنسية إخفاقات خارجية نتيجة مواقفها الإنفعالية والمتسرعة والهجومية ،شبيهة بالمراهقة الثورية السياسية،و بما يتناقض مع التاريخ الديلوماسي الفرنسي الذي إرتكز على إقامة علاقات غير عدائية مع العالم العربي بعد إنسحاب الإستعمار الفرنسي وفق المنهج الديغولي، وظلت هذه السياسة قائمة حتى وصول جاك شيراك الذي إنقلب عليها بتأثير من جورج بوش والمال الحريري بعنوان الصداقة والهدايا، وتحول إلى عامل إستفزاز هجومي ضد سوريا وإيران وحركات المقاومة العربية وإنتهى به الأمر إلى المحاكمة بتهمة الفساد وسوء إستعمال السلطة.
تسلم الرئيس ساركوزي الحكم على أنقاض سياسة شيراك وقلب الطاولة في قضية العلاقة مع سوريا، وإنفتح بشكل واسع على الرئيس الأسد خلافا لسياسة شيراك التي طالبت وعملت على عزل سوريا وحصارها، وصولا لإتهامها بإغتيال الرئيس الحريري وإستعمال المحكمة الدولية كأداة ثأرية وإنتقامية ضد المقاومة وسوريا.
لكن سرعان ما انكشفت الخديعة الفرنسية كما انكشفت الخديعة التركية بقيادة رجب أردوغان بتقاربه مع سوريا وإظهار تبنيه للقضية الفلسطينية والتي تبين زيفها بعد الأحداث السورية حيث منعت السلطات التركية المشاركة التركية في أسطول غزة(2) وأعادت الدفء للعلاقات الإسرائيلية التركية.
وهكذا فعلت فرنسا عندما شكلت رأس الحربة الدولية ضد سوريا سواء على مستوى الإتحاد الأوروبي بالتضامن مع بريطانيا حيث تجاوزت العقوبات الأوروبية على سوريا مستوى العقوبات الأميركية، وأمعنت فرنسا في دورها التحريضي والعدائي بالتضامن مع بريطانيا أيضا على مستوى مجلس الأمن لإصدار قرار يدين النظام السوري،وتورطت فرنسا أيضا في العمليات العسكرية في ليبيا وبشكل غير عقلاني، وتناست دعم القذافي لساركوزي في معركته الإنتخابية،وانكشفت العورة السياسية لفرنسا في تونس حيث تزامن من فراغ( زين الهاربين بن علي) مع إقلاع طائرات فرنسية محملة بالقنابل المسيلة للدموع وأدوات القمع للشرطة التونسية وكانت فرنسا قد بادرت للتصدي للملف النووي الإيراني وسافر الرئيس ساركوزي قاصدا العواصم العربية الخليجية لتسويق المفاعلات النووية الفرنسية للإمارات الخليجية التي تمثل أهم منابع النفط والأقل عددا في السكان.
ويبدو للوهلة الأولى أن الفعل الفرنسي هو قرار مستقل وذاتي على أساس إظهار فرنسا كدولة عظمى ،لكن الحقيقة تظهر أن القرار الفرنسي ما هو إلا إملاء أميركي بالدرجة الأولى وبوحي صهيوني لتنفيذ المخططات الأميركية على حساب الأوروبيين والعرب ،وتستعمل فرنسا خاصة وأوروبا عامة كاسحة ألغام سياسية وإقتصادية أمام المشروع الأميركي لتجني أميركا الأرباح وتدفع فرنسا الأثمان و الخسائر كما حصل بعد غزو العراق وكما سيحصل بعد إنتهاء الحراك في الساحات العربية ،خاصة في سوريا حيث تؤشر الوقائع إلى إمساك الأميركيين لملف الثورات والإتجاه بها نحو التسويات بين الأنظمة المتهالكة والثورات المنهمكة،وإبقاء الجميع على قيد الحياة بشكل ضعيف ومشلول، يحتاج الرعاية والدعم الأميركي مما يعطي أميركا قدرة بالإمساك بطرفي النزاع والحكام القدامى كأشخاص مع ضرورة بقاء أنظمتهم كنهج وأسلوب سياسي ،يؤمن لأميركا وإسرائيل مصالحهما الإستراتيجية الأمنية والإقتصادية.
إن فرنسا ساركوزي قد بالغت في إندفاعها لتأمين المصالح الأميركية الإسرائيلية على حساب مصالحها الوطنية، وتجاوزت عناوين الثورة الفرنسية المنادية بحقوق الإنسان والحرية بعدما مارست سياسة دينية عنصرية مرة بمنعها النقاب وتغريم المخالفين ماليا، وقبلها منع الحجاب بالإضافة إلى التمييز العنصري ضد المهاجرين الأفارقة مع ما رافقها من ممارسات عنيفة في أعمال الشغب في الضواحي الباريسية.
إن السياسة الفرنسية الحاضرة تذكر بالدور الإستعماري الفرنسي في العالم العربي في القرن الماضي والحنين إليه بطرق مباشرة وغير مباشرة دفعت وزير الخارجية جوبيه إلى أخذ دور الشعب السوري بنزع الشرعية دون وجه حق وتجاوزا للقانون الدولي ضد الرئيس الأسد.
إن فرنسا ستعاني خسارات حاليه ومستقبلية نتيجة السياسة الساركوزية المراهقة التي تتسم بالخفة والإنفعالية ،والتي تمثل الكومبارس الأوروبي للمخطط الأميركي دون أخذ دور البطل بل البهلواني الذي يمثل المشاهد الخطيرة نيابة عن البطل اللأميركي ابعادا للأذى عنه فلتعد فرنسا إلى تاريخها لأخذ العبرة منه، لأنه مهما انتفخت وعظمت قوة المحتل أو المستعمر أو انتشر في العالم،ستأتي اللحظة التي يعود فيها إلى حجمه وستهزمه الشعوب وتستعيد حريتها مهما بلغت الأثمان والتضحيات فالإحتلال والإستعمار إلى زوال والنصر حليف المقهورين والمستضعفين.