قصص مقاومة الإحتلال الاسرائيلي في جنوب لبنان
د.نسيب حطيط
( الحــاج أبــو محمــد )
عصاه المقطوعة من شجر السنديان سلاحه الخاص لحماية القرية ناعم ملمسها قوية ضربتها كتكوينها المتناقض فهي تلاطف فلانا بضربة خفيفة أو تؤدب آخر تجاوز حده في مفهوم الحاج(أبو محمد) كان لها الدور البارز في بعض الانتخابات حيث كانت تحسم بعض الأصوات لصالح من يؤيد وكانت لها حكايات مع(غزاله)(صبوحه) يهش بها عليهم ان عصوا أمره والحاكم عليهم برأيه حيث يقرر الحاج أبو محمد وينادى "بالحاج" تمييزا عن غيره يختبىء وجهه المتعب بتقاسيم الحياة للحية بيضاء أطالها التعب وشعر يتساوى مع اللحية فزادها وقارا مع ظهر ما زال منتصبا لم يحن او يحدودب امام عواصف الزمن الذي أهلكت الكثيرين من جيله.
في عصر كل يوم يجلس الحاج على مصطبة الساحة يحيطه بعض الصغار يستأنسون بحكاياته القديمة التي تحكي قصص الذئب والغنم والملوك وقديم الزمان.
عيون الأطفال مشدودة إلى شفاه الحاج لا تريدها أن تتوقف وتلح عليها بالمتابعة لتعرف ما جرى لبطل الحكاية وترفع أيديها محاولة الضرب أو متحمسة له ويرجع الحاج بعد أداء فريضة الصلاة في مسجد"جامع" القرية إلى منزله كل يوم ومضت السنون وكبر الأطفال وازداد اصفرار الشيب في لحيته وأخذت تتساقط بعض شعيراتها في مشطه حين يسرحها ويزيده ذلك تشاؤما وينذره بالرحيل ،لكنها حملت معها قدوم الغزاة الذين كان يحكي قصصهم للأطفال من بعيد وأصبحت الحكاية حقيقة واستبدل السيف بالرشاش والحصان بالدبابة بهت الشيخ حيث رأى جثث بعض من كان يحكي لهم منشورة على حصاد القمح في الحقول يمنعهم الغزاة من دفنها لتكون عبرة للآخرين وليعطي الغزاة للذئاب من أقاربهم فرصة الشبع عن أجساد من أطلق الرصاص بوجوههم وخيّم الحزن فوق شبابيك المنازل المختبئة وراء أوراق شجر الصفصاف المنتصبة على دروب القرية تظلل الحرمات بعد أن فر الخائنون وسكت الولاة والقائمون بالأمر وراء إذاعاتهم وخلف عروشهم وقصورهم والحاج يتكأ على عصاه ترافقه إلى مصطبة في الساحة حيث كان يجلس مع الأطفال المنشورة جثث بعضهم الآن حدق الحاج بعينيه نادى أحمد وصادق وغيرهم وانتظر لكن أحدا لم يأت لعل أمهاتهم منعتهم من المجيء ،سأنتظر ولكن لا جدوى فقد أتى آخرون أشكالهم غريبة ،فرؤوسهم غير مكشوفة كالأطفال ولا أثر للإبتسامات على وجوههم وأخشابهم التي يحملونها على أكتافهم مخيفة وقبيحة هذه المرة واجتمعوا حوله صارخين بوجهه أين المخربين؟
أعتقد الحاج بأنهم جاؤوا ليسمعوا بعضا من قصصه لكنهم بدأوا بتمثيل الحكاية عندما ضربه أحدهم بمؤخر بندقيته محذرا إياه من الجلوس في ساحة القرية بعد الآن وحاول أن يدفعه بعصاه لكن قوته وضعفه منعاه من ذلك إتكأ على عصاه ورافقته إلى منزله هناك فوق التل قرب شجرة الجوز حيث كان يكسر حباتها برأس عصاه وحيث قتل ثعبانا كبيرا حاول الإقتراب من يده ومشى الحاج حزينا والألم يعتصر قلبه ثأرا بكرامته المهدورة على فوهه بندقية هذا الجندي .
أحس الحاج أبو محمد أن شيئا ما قد خسره لا بد أن يعوضه وكانت حفر الطريق تؤذي قدميه ببعض حجارتها فهو لم يضئ مصباحه خوفا" من أن يراه الغزاة، فلعلهم يطلقون النار عليه فهم يخافون من كل شيء يتحرك وصل المنزل والعرق يتصبب من جبينه أشعل مصباح الكاز وبكى حتى غفا فوق وسادته حزينا وقلقا" الى قبيل الفجر حيث توضأ وصلى الصباح واخذ القرآن رفيقه الدائم في وحشته الطويلة بعد موت "الحاجة أم محمد" وشد انتباهه صوت أجنحة سرب من الغربان طار معلنا إنتهائه من نقر جثة ملقاة ..هناك أحس أن الغربان تنقر جسمه في هذا الصباح بل أحس بالفعل أنها بدأت بذلك عندما نهره ذلك الجندي ببندقيته قرر أن لا يترك جثته للذئاب والغربان فعصاه ما زالت متينة وسواعده وإن أنهكهما التعب ما زالت تقاتل وأن شدّ كوفيته على جبينه فمن يقاتل أبو محمد...!
صمم "الحاج" أن يدفن بقايا الجثث لوحده مع عصاه في الليلة القادمة ومن يقف بوجهي سأقطع لحمه للغربان والذئاب أدعوها للعشاء على جثث المحتلين ،فلسنا ضعفاء قالها وحمل رفشا ومعولا ومشى في جوف الليل ،حيث يرقد الشهداء بعدما أخذت مصابيح المنازل تنطفىء الواحد بعد الآخر معلنة نوم الآخرين وبدأ ضوء القمر خفيفا كمن أراد مساعدة الحاج في عمله سرا ،...أقفل الباب على سراج مضيء ومشى باتجاه الجثث وبدأ بتغطية الجثث بالتراب بعد الحفر لها وتلقينها الشهادة متنقلا بين مشاهد الجثث حى انبلج الفجر مع آخر رفش على جسد شهيد يرقد آخر التل قرب صخرة كانت منتصبة نيابة عن الشهداء معلنة أنهم باقون....
رجع الحاج أبو محمد وكان يتلفت وراءه خوفا أن يكون قد نسي أحدا بينما هو يغتسل غسل "مس" الميت سمع مذياع القرية يعلن أن على الجميع أن يجتمعوا في النادي الحسيني خلال ربع ساعة توكل على الله ومضى، فرأى الناس راكعين تحت فوهات البنادق وبعض الجنود يمرحون أمامهم طالبين منهم أن يعترفوا على من دفن الجثث وإلا فالإعتقال مصير الشباب وحتى الفتيات والفرصة إلى المساء حتى يسلم دافن الجثث نفسه للحاكم العسكري ...وانصرف الجميع يتطلعون ببعضهم متسائلين من فعل ذلك..ولا من مجيب أحس الحاج أن الحكاية قد أخذت طريقها ولا بد لبطل من قصصه التي كان يرويها للصغار أن يظهر بعد قدوم الغزاة وأسرّ لبعض الشباب ممن كان يروي لهم القصص أطفالا أن يأتوا إليه عصرا إن كان باستطاعتهم مساعدته في تعقب ثعبان رآه أمام المنزل فهو لا يستطيع منفردا أن يفعل ذلك وأتوا إليه كانوا خمسة سلموا وبعدها استوضحوا مكان الثعبان فأبلغهم أنه في مكان قريب وأن رأسه يكبر وقامته تتطاول ويمكن أن يكون له أولادُ أو أصدقاء لذلك يجب الحذر والإنتباه وهذه عصاي لمن أرادها وحدق بعينيه في وجوههم كمن يحاول أن يعرف هل فهموا قصده وابتسم وابتسموا ....وأمسك بأيديهم مقبلا وجناتهم وأومأ "لبسام" ان يهيأ الشاي ويعود قال لهم ما العمل. ...فسكت الجميع...وقال لقد أتوا إلينا ....لن نجعل أجسادنا طعاما للوحوش سنجعل من أجسادهم موائد للغربان ولكن كيف؟
سنتقاسم السهر والحماية وننذر بعضنا عند رؤيتهم هكذا لا ندعهم يعتقلونا بل سنقاوم حتى بالحجارة وستساعدنا النسوة في ذلك واستأنس الشباب بفكرة الحاج وأخذ كل واحد يتذكرأصدقائه فهذا يقول سأقول لمحمد وحسن وآخر سأقول لحسين وعلي وهكذا واتفق الجميع أن تقسم القرية إلى أربع نقاط على مداخلها وفي الوسط وكلفوا حسن بمذياع المسجد ليصدح بالآذان عند سماع تكبيرات الأخوة تتعالى واتفق الجميع ورجع كل إلى منزله ورأسه يضج بأفكار الليلة القادمة وما تحمله من تباشير المقاومة للمحتلين كأنهم يمثلون قصة من قصص "الحاج" هذه المرة وضع الحاج أبو محمد (بردوسيته) ذات اللون البني على كتفيه وخبأ رأسه بكوفيته القديمة وحمل عصاه وإتكأ إلى جانب صخرة على التلة المقابلة لمدخل القرية مع إثنين من الشباب إبتعدا عنه بضعة أمتار واختبئا وراء شجرتين صغيرتين مضت الساعات ودقات القلب تخفق فلأول مرة ينام الشباب خارج منازلهم ينتظرون السيارات العسكرية للإحتلال ليقفوا بمواجهتها بالحجارة والعصي ولا يدعوها تعتقلهم عيون الشباب تذبل أجفانها أحيانا وتعود لترتفع فالثانية عشرة ليلا ولم يأت أحد الظاهر أنهم لن يأتوا هذه الليلة قال "طلال" ردّ "الحاج" كالواثق من نفسه قائلا...لا... سيأتون إنهم كلاب خنازير سيأتون وبعد دقائق بدأ هدير السيارات يسمع وبدأت التكبيرات تعلو في فضاء القرية وبدأ الحاج أبو محمد ورافقه الشباب وبدأت الصيحات في وسط القرية وآخرها استغربت الناس سماع الأذان في منتصف الليل خلاف العادة ، فخرجت من منازلها مستفسرة "غسان" يوضح عبر المذياع أن الصهاينة قادمون ليعتقلوا الشباب ويدعوا الناس للمواجهة بالأحجار وبدأالأهالي بالتجمع وعصي الرجال القديمة بدأت تظهر( البعكور) الصغار أخذت متاريسها وبدأت المواجهة واستمرت أكثر من ساعة كانت تزيد حماسة للناس فيها كلمات التكبير وصدى الرصاص الموجه للصدور من رشاشات المحتلين وتراجعوا وبقي الناس في الساحة حتى طلوع الفجر أرادوا أن يعودوا لمنازلهم لكن أصوات تكبيرات بعيدة بدأت تتضح ومشى الناس باتجاهها وحدقت العيون لا تصدق ما ترى..... "فالحاج أبو محمد" محمولا فوق الأكتاف ممزّق الجسد بالرصاص لحيته البيضاء صبغها الدم الأحمر ... والعينان مفتوحتان تحدّق بالناس والبسمة على الثغر المشوه برصاصة في الوجه يشكر الله على نعمته والناس على موقفهم بدأت القبضات ترتفع منددة بالمحتلين وعيون النساء وحتى الرجال والشباب بدأت تطلق سراح دمعها حزنا على "الحاج" وفرحا بالمواجهة وشيّع الحاج إلى حيث كان يستريح يقص القصص للصغار في الساحة حيث اجتمعت كل القرية كبارا وصغارا حول الجسد المسجّى الذي جمعهم صغارا حول الحكاية وكبارا بمواجهة للمحتلين وعرفت الساحة(بساحة أبو محمد) حيث أكلت عصاه بنادق المحتلين عبر بنادق المجاهدين ورحل المحتلون تاركين بضع جثث في التل حيث كان يحرس "الحاج" وكانت أسراب الغربان تغط وتروح حاملة ما تيسّر لها من لحم الأوغاد المحتلين، ينظر الشباب إليها ويتمتمون بشفاههم "للحاج أبو محمد" عهدا أن لا ندفنها ولا ندعهم يأخذونها لتختفي بقاياها في حرث الأرض وتبقى عصاك منتصبة فوقها معلنة الإنتصار مقابلة لشقائق النعمان فوق القبور المجهولة التي دفنتَ فيها إخوتنا الشهداء... وستبقى بطل الحكاية لنا صغارا وكبارا ولحيتك البيضاء تعلن لنا السلام والإنتصار.