مصــر وهزيمــة المشــروع الأميركــي
د.نسيب حطيط
تشكل الانتفاضة الشعبية المصرية بداية إرهاصات تغييرية للواقع العربي المهين والمستباح من الإدارة الأميركية وحلفائها الغربيين ووديعتها في المنطقة(إسرائيل) ،وإذا كان من المبكر توقع نتائج حاسمة للمواجهة القاسية بين الحركة الشعبية والنظام المدعوم من أميركا وحلفائه(المعتدلين)العرب ،فإن الأكيد أن النظام لن يبقى كما كان وأن هيكله العام قد تآكل وتفسخ، ومعرض للإنقلاب عليه من أركانه الأساسيين،في لحظة الإرباك والضياع ،لقطع الطريق أمام الجماهير الشعبية من حصاد ثورتها، لصالح قوة الخصم وأدواته المتعددة خاصة وأن أميرك وبشراكة اسرائيلية تتولى إدارة المواجهة بشكل دقيق ومربك وإنفعالي، لكن بإصرار على عدم التخلي عن الساحة المصرية لما تشكله من رمزية وأداة مادية للإمساك بالعالم العربي، و منطقة الشرق الأوسط كبوابة للعبور والتغلغل الإسرائيلي.
ولذا فإن سقوط النظام المصري سيفسح المجال لإعادة إستنهاض الحركة القومية أو الحركة الإسلامية(الأخوان المسلمون)كبديل عن(القاعدة) المصنعة مخابراتيا من أميركا، خاصة وأن كلا التيارين القومي(الناصري)أو الإسلامي(الأخوان) لهما إمتداداتهما داخل البلاد العربية وفي نفس المذهب(الإسلام السني) بحيث لا يعترضهما أي عائق أمام نموهما أو إنتشارها بحجة الخلاف المذهبي أو التبعية لقوى أجنبية(إيران...).
و تواجه الإنتفاضة المصرية العديد من الصعوبات ومنها:
- قوة النظام ودعم حلفائه الأميركيين والإسرائيليين ،والشراسة في الدفاع عنه لضمان أمن اسرائيل اولا ،والمشروع الأميركي في المنطقة وحماية ماتبقى من المعتدلين العرب أو تأخير سقوطهم لتأمين البديل .
- غياب القيادات الرمزية والفاعلة لحركة المعارضة، والإعتماد على المبادرة والعفوية التي تحمل وجها إيجابيا يتمثل بعدم قدرة النظام على حصار واعتقال قادتها وتحمل وجها سلبيا بالخوف من تعبها وإنكفاءها عن المتابعة في حال طالت مدة المواجهة مع النظام.
- حساسية الساحة المصرية على المستوى العربي والإسرائيلي والأميركي فهي ساحة خطيرة تغير موازين القوى في المنطقة في حال إنتقالها من جهة إلى أخرى وتمحو ثلاثة عقود من العمل الأميركي– الإسرائيلي المستمر للسيطرة منذ إتفاقية(كامب دايفيد) و إتفاقية (وادي عربة)مع الأردن واتفاق17 أيار الذي أسقطته القوى الوطنية اللبنانية وإتفاقيات أوسلو عام 1991 وما أنتجته على مستوى التنازل الطوعي من السلطة الفلسطينية للإحتلال الإسرائيلي، وإعطائه ما عجز عنه منذ ستين عاما ،و تأكيد مشروعية إحتلاله ومصادرته للأرض ،وهذا ما يدفع الإدارة الأميركية والإسرائيلية للقتال بشراسة للإحتفاظ بالساحة المصرية كنقطة إرتكاز للمشروع الأميركي بما يسمى(الشرق الأوسط الجديد)المصادر أميركيا ،وأي خسارة للنظام المصري تعني ولادة(شرق أوسط جديد)سيكون حتما غير أميركي، بعيدا عن السجال حول هويته القادمة سواء الهوية الإسلامية أو العلمانية أو القومية أو المتعددة.
- إنكفاء النخب وحركات التغيير العربية عن مساندة بعضها البعض و عدم قيام جبهة تحالف ودعم متبادل على الأقل معنويا ورمزيا،إذا انتفت إمكانية الدعم المادي والتضامني ،وطالما أن الرؤساء والملوك الخائفون على ألقابهم وعروشهم يتضامنون مع بعضهم البعض فلم لا يتضامن المقهورون والمظلومون مع بعضهم ،مما يعطي حافزا معنويا على الأقل للصمود أو الإنتفاضة على الواقع الذي تعيشه الأمة المصادرة من عائلات الرؤساء والملوك وحاشيتهم .
- هشاشة وضعف الأحزاب العربية التي تشبه المومياءات الخشبية والصنمية التي تكتفي بالبيانات الورقية الفاقدة للقوة أو التأثير،حتى أن مؤتمر الأحزاب العربية لم يبد أي ردة فعل حتى ببيان ورقي أو إجتماع إستثنائي ،كذلك فإن الاحزاب العربية على إختلاف أيديولوجياتها لم تتحرك ولو بشكل خجول لدعم التحرك المصري أو التونسي ولم يرق لمستوى التكامل أو التكافل بين قوى التغيير العربية والإسلامية إلى مستوى فاعل ولو بالحد الأدنى.
بناء على هذه المصاعب والعوائق أو خيبات الأمل من رفاق الحرمان والقهر فإن حركة الإحتجاج المصرية ترزح تحت عبء المواجهة القاسية مع النظام ورعاته الأميركيين حتى لا تتكرر تجربة إنتفاضة 18و19يناير عام1977(ثورة الخبز) أيام الرئيس السادات ،والتي انتهت بقمع المتظاهرين وحصار الأحزاب وترسيخ (الديكتاتورية الجمهورية )، ولذلك لا تمتلك المعارضة غير خيار الصمود والإستمرارية ،وتصعيد فعاليات الإحتجاج من عصيان مدني وحصار لمؤسسات النظام ورموزه وتحييد الجيش، والحذر من أجهزة المخابرات الإسرائيلية خاصة و(بلطجية )السلطة وشرطتها السرية التي ستمارس عمليات الإغتيال والتخريب وترهيب المتظاهرين لمنع حشد الجماهير وتقزيم أعداد المشاركين وافتعال مواجهة متقابلة في الشارع بين مؤيدي ومعارضي النظام،لتحييده عن اللكمات وإعادة إعطاء نفسه صفة(الحكم)والقاضي لإعادة الأمن والنظام.
إن سقوط النظام المصري(نظام مبارك) يعني هزيمة المشروع الأميركي ميدانيا بعد إخفاقاته في العراق وأفغانستان ،وعجزه عن هزيمة وإسقاط نظامي إيران وسوريا وخروجه ضعيفا من الساحة اللبنانية وإنكفاء حلفائه ومؤيديه من قوى 14 أذار(المتبقية)ولذا فإن هزيمة المشروع الأميركي في الساحة المصرية سيؤدي بشكل واقعي إلى إنحسار المشروع الأميركي أو على الأقل إرباكه وشلله عن القيام بأي مبادرة على مستوى المنطقة ،وتراجعه للدفاع عن منجزاته أو حماية ما تبقى منها من أنظمة تابعة أو التكيف مع الأوضاع المستجدة للمشاركة في إعادة تكوين السلطة في تونس ومصر أو لبنان ،للحفاظ على الحد الأدنى من المصالح الأميركية ، وهذه الوقائع تؤكد مفصلية الحدث المصري وإنعكاساته الداخلية والإقليمية بل والدولية، حيث سيؤدي نجاح المعارضة المصرية إلى تقهقر المشروع الأميركي وعودته إلى داخل الولايات المتحدة خاصة ونحن على مشارف خروج(المارد الصيني ) سياسيا وعسكريا بعد تغلغله الإقتصادي عالميا وعلى مشارف عودة بوتين رئيس الوزراء الروسي إلى السلطة عام 2012 وأحلامه بعودة الأمبراطورية الراحلة.
ولذا فإن الواجب الوطني والقومي والإنساني يفرض دعم حركة المعارضة المصرية بكل وسيلة ودون إبطاء لأن معركة إسقاط النظام المصري هو حق وواجب الشعب المصري ،لكن إسقاط المشروع الأميركي ومفرداته وأدواته، والذي يشكل النظام المصري أحد أدواته الفاعلة والمؤثرة هو واجب القوى الوطنية والتحررية على مستوى العالم العربي والإسلامي عامة.
فكما شكلت خطوة النظام المصري في عهد السادات بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل(كامب دايفيد)بداية عصر الإنهيار العربي والتمدد الإسرائيلي وذوبان القضية الفلسطينية وإندثار الهوية العربية والإسلامية وشطب العالم العربي من لائحة القوى الفاعلة على المسرح الدولي و إخراج مصر من عروبتها وإسلامها إلى هويتها الفرعونية، فإن سقوط النظام المصري يعني إغلاق بوابة العالم العربي أمام الإستباحة الأميركية الفاجرة للوطن العربي أمنيا وإقتصاديا وسياسيا
فمن واجب القوى الوطنية العربية التحرك تضامنيا لتحفيز الشعوب لترتيب أولوياتها والحفاظ على ثرواتها وحضارتها، وبناء منظومة سياسية وثقافية بعيدة عن التقليد الأعمى والتبعية المطلقة للغرب،والأكثر من ذلك توجيه جرس إنذار مرعب لمؤسسات الأنظمة الحاكمة ورؤسائها وملوكها واشعارهم بأن إمساكهم بالسلطة كالقبض على الجمر أو قبضة من الرمل الجاف المتسرب من بين أصابع النظام وحاشيته التي تفر بحقائبها المالية عند أول حركة إحتجاج ،حيث أن الوطن لا يمثل عند هذه الطبقة إلا حقيبة مالية أو صكوكا بنكية وأجهزة أمنية تتصارع لوراثة السلطة وتقاسمها كما يأكل الوثنيون أصنامهم عن الجوع.
إن نجاح الحدث المصري سيؤدي ضمنا إلى الإطاحة بأنظمة مشابهة وتغيير سلوك أنظمة أخرى لتدارك وإستيعاب حركات المعارضة التي إستفادت تعبويا من التجريبتين التونسية والمصرية وهذا ما يؤشر إلى أننا على أعتاب عصر عربي جديد يشبه إلى حد ما عصر الإنقلابات التي شهدها العالم العربي في الخمسينات والستينات مع فارق أن الإنقلابات كانت عسكرية أما حركات التغيير الحاضرة فهي ثورات شعبية غير واضحة القيادة(كما في إيران سابقا)وغير واضحة الهوية الإيدلوجية(يسارية أم إسلامية أوقومية) بل أن التحركات الشعبية الإحتجاجية تنطلق من الأوضاع الإقتصادية والمعيشية لتتوسع إلى الشعارات السياسية وحرية التعبير والتحرر من القيود الإستعمارية المباشرة وغير المباشرة،والإستعباد العصري المتمثل بتقييد الحريات والإذلال المعيشي والإتفاقيات الخارجية التي تمثل وصاية خارجية على الشعوب عبر أنظمتها التابعة والحليفة لأميركا ومنظومتها الإستعمارية.
إن سقوط النظام المصري يعني سقوط أخر الحلفاء الإستراتيجيين للكيان الصهيوني بعد خسارته لإيران بعد الثورة الإسلامية ،وخسارته لتركيا بعد صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي وإستلامه للحكم وما شكلته مجزرة أسطول الحرية من منعطف مفصلي بالفراق السياسي بين إسرائيل وتركيا،وبالتالي فإن إسرائيل على أعتاب عزلة إقليمية قاتلة مع غياب الشركاء الفاعليين والإستراتيجيين في المنطقة، حتى لو بقي معها بعض الأنظمة العربية،فهي أنظمة ضعيفة وخائفة ولا تملك مقومات الصمود أو الدعم للكيان الإسرائيلي،وهذا ما يسهل على قوى المقاومة والممانعة لتصعيد حراكها السياسي والأمني،لمقاومة العدو داخل فلسطين وعلى الجبهات العربية أو على مستوى ساحات الصراع المخابراتي وعلى قوى المقاومة إستغلال الفرصة التاريخية الحاضرة لتدعيم وتعميم مشروعها المقاوم وثقافة الممانعة تحسبا لأي إنقضاض أميركي لإستعادة زمام المبادرة أو لتحصين الساحات المهددة بالسقوط.