حيادية الشعوب العربية... في معركة المصير؟
نسيب حطيط
في غمرة المخاض السياسي والعسكري الذي يعيشه العالم العربي، نرى ان مشروع السيطرة الأميركية لصناعة شرق أوسط جديد وتفتيت المنطقة بعد معاهدة سايكس ـ بيكو، التي أسست الدول والممالك والامارات وفق ما هو الآن مع «لقاح عنصري» استعماري مقيم هو «دولة إسرائيل»، يؤسس لمنهجية جديدة هي زراعة كيانات سياسية في قلب أي منظومة منسجمة. ووجد الاستعمار الأميركي الجديد، قلقا وخوفا من بعض الكيانات المستقلة، التي بدأت بصياغة أمان ذاتي يؤهلها لاستقلالية القرار او الممانعة والاعتراض على تنفيذ ما يتعارض مع مصلحة شعوبها، وبعد ان عجز هذا اللقاح العنصري الإسرائيلي عن كبح جماح هذا الاندفاع الاستقلالي.
وخوفا من تقلب الأمور لغير صالح المشروع الأميركي، واقتناص الفرصة الذهبية لغياب (الاتحاد السوفياتي) وقبل نهوض عملاق جديد (الصين) وبعد شل حركة (الاتحاد الاوروبي)، لجأت اميركا الى التدخل المباشر ميدانيا في العراق ولبنان وايران وفي كل بلد عربي، مرة بالاقتصاد وبالسياسة او بالتدخل العسكري، فانقسمت مكونات الأمة (الشعوب ـ الأنظمة ـ حركات المقاومة) في المواقف وفق التالي:
ـ الشعوب: ان القمع والظروف المعيشية وتقييد الحريات العامة وتدني المستوى المعيشي وسوء ادارة الموارد والثروات الوطنية، والبطالة، وتوظيف الأنظمة للمفاهيم الدينية (اطع حاكمك ولو ألهب ظهرك بالسياط)، والغاء دور المرأة بحجة عدم الاختلاط والتمسك بمفهوم الحريم، وتطوير منطق الجواري من خلال التحرر المزيف للمرأة، حيث بلغت نسبة الأمية في المغرب 80٪ عند الاناث و40٪ في العالم العربي (68 مليون امي)، كل هذه الامراض الاجتماعية والسياسية أدت الى شل حركة الشعوب وادخالها في سبات عميق، فلم تجد غير الطرب، الموصوف بالهابط، لينجو من الرقابة ويتسلل الى الجمهور، وستار اكاديمي متنفسا للتعبير رفضا للحصار الذي تعيشه.
إن الشعوب العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة عادت الى كبوتها ونومها السياسي والفكري بعد اليقظة التي شهدتها في الخمسينيات والستينيات وبروز القومية العربية وفكرها التحرري الذي أنتج الناصرية، والمقاومة الفلسطينية والحركة التصحيحة للرئيس السوري حافظ الأسد، وغيرها، التي استطاعت الامساك بالأنظمة على مستوى الدولة بالإضافة الى أحزاب سياسية مختلفة العقائد بين الديني والعلماني والقومي، ولدت حراكا سياسيا على مستوى المجتمع العربي ادخله في دائرة الحوار الفكري والنهضة العلمية والأدبية، كانت ذروته في حرب تشرين عام 1973 التي كسرت حاجز فقدان الثقة بالنفس على مستوى الفرد والأمة، التي تحالفت أنظمتها في لحظة تاريخية فريدة لصياغة موقف عربي. ثم توالت النكسات وبدأ الخط البياني للروح العربية اليقظة والثائرة بالانحدار وتمزقت او ضعفت الهيئات العربية المشتركة ـ جامعة الدول العربية ومتفرعاتها ـ وجمدت المشاريع الجامعة مثل السوق العربية المشتركة والحدود المفتوحة..
وتحولت الشعوب الى مستهلك يتلقى ما يعرض عليه او ما يفرض عليه، وإلغاء كل مشاركة، وتعرض لعملية تفريغ لمنظومة القيم التي تربى عليها، وصلت الى حد إلغاء «نخوة العربي» المتجذرة في التاريح العربي منذ الجاهلية، فترى ان الشعوب أخذت موقف المحايد والمتفرج على الأحداث كأن الحرائق المشتعلة حولها لا تصيبها، فصار الفلسطيني يذبح، والحاكم العربي للبلد المجاور يعقد لقاء القمة مع الصهاينة او يكون وسيطا محايدا او ضاغطا على الطرف العربي، وتستقبل الشعوب السياح الإسرائيليين، وتعرض اللبناني للاجتياحات والمجازر وصولا الى حرب الإبادة الجماعية في تموز 2006 فيما تصل الأنظمة لتفهم ودعم المعتدي الإسرائيلي والعتب والتقريع للمقاومة الشعبية في لبنان.
وكانت الشعوب خجولة في مواقفها إلا بعض الاستثناءات من الدعم والاحتضان بحيث ان بعض المظاهرات حصلت في أوروبا وأميركا قبل مثيلاتها في الدول العربية، او أضخم من المظاهرات في بعض البلاد العربية، وبعض البلاد لم تشهد شوارعها مظاهرة واحدة.
وبالتالي سقطت الشعوب في اختبار الدفاع عن حضارتها، في لحظة تاريخية حاسمة، وهنا جوهر المشكلة ان تصل الشعوب لحالة الاستكانة والحيادية وعدم التفاعل مع بعضها (كالجسد الواحد) ما فكك مفهوم الحس الجماعي والمستقبل المشترك في فكر المواطن العربي الذي تعرض لغسل دماغ سلبي ولم يتعامل مع (الأمة العربية) حتى بمثابة عشيرة ينتمي اليها ويدافع عنها، في صحراء العولمة التي سرقت من الشعوب أخلاقها ومقدراتها وجعلتها شبيهة (بالروبوت البشري) الذي تحركه القرارات الخارجية وتمنحه الأسماء والألقاب: متطرف ومعتدل... وصارت الشعوب مجموعات يعرف عنها وفق (كود) اميركي محدد، وصارت الشعوب أعدادا بلا فاعلية.
ـ الأنظمة: إن غالبية الأنظمة تعيش حالة ارباك وعدم انسجام مع شعوبها، وبالتالي فإن القلق والاستنفار الدائم جعلاها تستنجد بالخارج وتقمع الداخل، وتقبل بالضغوط والاملاءات والتنازل عن قرارها المستقل مقابل استمرارية حكمها على صعيد العائلة.
وقد تفلتت بعض الأنظمة من هذه المعادلة القاسية ما عرضها لضغوط قاسية لدفعها إما للتراجع عن مواقفها والتسليم بالأمر الواقع، او دفع الثمن غاليا باقصائها عن الحكم بالقوة الخارجية المباشرة او بالقوة الداخلية المدعومة خارجيا.
ـ حركات المقاومة: في خضم هذا الواقع المرير والمأساوي برزت في صحراء الشعوب العربية بعض الواحات الطيبة من حركات المقاومة والممانعة التي مارست دور (المنبه) للأمة في غيبوبتها حتى تبقى يقظة حتى اللحظة التي تقدم لها الاسعافات الفكرية والعقائدية اللازمة للاستنهاض. وتحملت هذه الحركات المقاومة مدعومة من بعض الأنظمة، مسؤولية توجيه الضربات للمشروع الأميركي المؤلمة والمعرقلة للتمدد الأميركي في المنطقة، كما في لبنان وكما في فلسطين والعراق. وتحملت هذه الحركات مدعومة من النخب الفكرية والدينية والعلمية وبعض هيئات المجتمع المدني والطلاب في العالم العربي، مسؤولية التعبئة الشاملــة ومنـع الفــتن والحـفاظ على وحدة الموقف بحــدوده الدنـيا وقد نجــحت الى حد كبير في مواجــهة العملاق الأميركي وحلفائه حتى الآن.
لكن المشكلة ان العبء كبير، والمسؤولية ضخمة، ومقومات الدفاع محدودة ماديا، ومفتوحة عقائديا، فإذا أسقطنا الرهان على الأنظمة في حماية الأمة فلا بد للشعوب من ان تتخلى عن حيادها وتتجه لاتخاذ الموقف المقاوم وفق ظروف كل بلد وكل ساحة، لتتكامل حركات المقاومة العامة في مسار واحد لصناعة شبكة أمان تحمي هذه الأمة في معركة تاريخية ستقرر مستقبلها لآجال طويلة. ومن يظن ان النار لن تصل اليه فهو واهم، فدائرة النار هي كل العالم العربي لكنها بالتقسيط ستلتهم بلدا تلو الآخر، وتقسم شعبا تلو الآخر. وبالتالي فإن التأخر عن الانتباه والاستعداد والتهيؤ للدفاع، سيشكل كارثة حضارية لأمة أضعفها الزمن بعض المرات لكنه لم يستطع تدميرها، لكنها الآن على قاب قوسين من الإبادة. فهل تستيقظ الشعوب، أم ستموت اختناقا وهي نائمة.
(٭) كاتب لبناني